فصل: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: (الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي وَإِمْكَانِيَّةُ أَخْذِهَا امْتِثَالًا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَمِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارَيْنِ‏]‏

الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِعًا إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْآخَرُ رَاجِعًا إِلَى بَعْضِ تَفَاصِيلِهَا، أَوْ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا، أَوْ إِلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَاجْتِمَاعُهُمَا جَائِزٌ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ‏.‏

وَالَّذِي يُذْكَرُ هُنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا تَابِعٌ وَالْآخَرُ مَتْبُوعٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ الرَّاجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَمَا سِوَاهُ تَابِعٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ إِلَى التَّفَاصِيلِ، أَوِ الْأَوْصَافِ، أَوِ الْجُزْئِيَّاتِ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْجُمْلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لَهَا، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَطَلَبُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مُطْلَقًا، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ تَابِعًا‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الطَّلَبَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ وُقُوعَ مُقْتَضَاهُ دُونَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْجُمْلَةِ، بَلْ إِنْ فُرِضَ فَقْدُ الْأَمْرِ بِالْجُمْلَةِ لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ التَّفَاصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّفَاصِيلَ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مُفَصَّلٍ وَالْأَوْصَافَ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مَوْصُوفٍ وَالْجُزْئِيَّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْكُلِّيِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَطَلَبُهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِطَلَبِ الْجُمْلَةِ‏.‏

وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَالصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الطَّهَارَةِ الْحَدَثِيَّةِ وَالْخَبَثِيَّةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ وَالْخُشُوعِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ الزَّكَاةِ مَعَ انْتِقَاءِ أَطْيَبِ الْكَسْبِ فِيهَا وَإِخْرَاجِهَا فِي وَقْتِهَا، وَتَنْوِيعِ الْمُخْرَجِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ مَعَ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَتَرْكِ الرَّفَثِ، وَعَدَمِ التَّغْرِيرِ، وَكَالْحَجِّ مَعَ مَطْلُوبَاتِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ كَالتَّفَاصِيلِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْأَوْصَافِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ مَعَ الْعَدْلِ وَاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ وَالْبَيْعُ مَعَ تَوْفِيَةِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَحُسْنُ الْقَضَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالنَّصِيحَةُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْنِيَّةٌ فِي الطَّلَبِ عَلَى طَلَبِ مَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ وَانْبَنَتْ عَلَيْهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ إِلَّا وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأُمُورِ الْمَطْلُوبَةِ الْجُمَلِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّوَابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ‏.‏

بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ كَالشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ قَبْلَ الطِّيبِ، فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَرِدْ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ إِلَّا عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ فَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ فِيهَا فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى صَيْرُورَةِ الثَّمَرَةِ كَالْجُزْءِ التَّابِعِ لِلشَّجَرَةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا مَعًا فَارْتَفَعَ النَّهْيُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ اتِّحَادُ الْأَمْرِ؛ إِذْ ذَاكَ بِمَعْنَى تَوَارُدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِهَا فِي نَفْسِهَا وَاعْتِبَارِ تَفَاصِيلِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَأَوْصَافِهَا‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَرَتِ الضَّرُورِيَّاتُ مَعَ الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، فَإِنَّ التَّوْسِعَةَ وَرَفْعَ الْحَرَجِ يَقْتَضِي شَيْئًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّضْيِيقُ وَالْحَرَجُ، وَهُوَ الضَّرُورِيَّاتُ بِلَا شَكِّ وَالتَّحْسِينَاتُ مُكَمِّلَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَلْزِمَ أُمُورًا تَكُونُ مُكَمِّلَاتٍ لَهَا؛ لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّكْمِيلَ وَالتَّوْسِيعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْضُوعٍ إِذَا فُقِدَ فِيهِ ذَلِكَ عُدَّ غَيْرَ حَسَنٍ وَلَا كَامِلٍ وَلَا مُوَسَّعٍ، بَلْ قَبِيحًا مَثَلًا، أَوْ نَاقِصًا، أَوْ ضَيِّقًا، أَوْ حَرِجًا، فَلَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِهَا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مَطْلُوبٍ فَالْمَطْلُوبُ أَنْ يَكُونَ تَحْسِينًا وَتَوْسِيعًا، تَابِعٌ فِي الطَّلَبِ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُوَسَّعِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَبِ التَّبَعِيَّةِ وَطَلَبِ الْمَتْبُوعِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا تُصُوِّرَ فِي الْمَوْضِعِ قِسْمٌ آخَرُ، وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا‏]‏

فَنَقُولُ‏:‏ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا، أَوْ جُزْئِيَّاتِهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ اجْتِمَاعِهِمَا وَلَهُ صُورَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنْ يَرْجِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالنَّهْيُ إِلَى أَوْصَافِهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ كَالصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَصِيَامِ أَيَّامِ الْعِيدِ وَالْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَالْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْعَدْلِ فِيهِ وَالْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ فِي الْبُيُوعِ، وَنَحْوِهَا إِلَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ يَرْجِعَ النَّهْيُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْأَمْرُ إِلَى أَوْصَافِهَا وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَالتَّسَتُّرِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءٍ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ»‏.‏

وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَرَوَى‏:‏ «مَنْ مَشَى مِنْكُمْ إِلَى طَمَعٍ فَلْيَمْشِ رُوَيْدًا»‏.‏

وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ هُنَا‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِمْ فِي الْأَوَّلِ فَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِي التَّفْرِيعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَيَنْجَرُّ هُنَا الْكَلَامُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏تَفَاوُتُ الطَّلَبِ فِيمَا كَانَ مَتْبُوعًا مَعَ التَّابِعِ لَهُ‏]‏

وَذَلِكَ تَفَاوُتُ الطَّلَبِ فِيمَا كَانَ مَتْبُوعًا مَعَ التَّابِعِ لَهُ، وَأَنَّ الطَّلَبَ الْمُتَوَجَّهَ لِلْجُمْلَةِ أَعْلَى رُتْبَةً، وَآكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الطَّلَبِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى التَّفَاصِيلِ، أَوِ الْأَوْصَافِ، أَوْ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَتْبُوعَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ التَّابِعَ مَقْصُودٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَمَا قُصِدَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ آكَدُ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِمَّا يَقْصِدُ الثَّانِي وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يُلْغَى جَانِبُ التَّابِعِ فِي جَنْبِ الْمَتْبُوعِ، فَلَا يُعْتَبَرُ التَّابِعُ إِذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ يَعُودُ عَلَى الْمَتْبُوعِ بِالْإِخْلَالِ، أَوْ يَصِيرُ مِنْهُ كَالْجُزْءِ، أَوْ كَالصِّفَةِ، أَوِ التَّكْمِلَةِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمَتْبُوعِ فِي الِاعْتِبَارِ وَضَعْفِ التَّابِعِ فَالْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَتْبُوعِ آكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّابِعِ‏.‏

وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ يُعْلَمُ أَنَّ الْأَوَامِرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَجْرِي فِي التَّأْكِيدِ مَجْرًى وَاحِدًا، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَصْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْأَوَامِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لَيْسَتْ كَالْأَوَامِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأُمُورِ الْحَاجِيَّةِ وَلَا التَّحْسِينِيَّةِ وَلَا الْأُمُورِ الْمُكَمِّلَةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ كَالضَّرُورِيَّاتِ أَنْفُسِهَا، بَلْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ مَعْلُومٌ، بَلِ الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الطَّلَبِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ كَالطَّلَبِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الدِّينِ لَيْسَ فِي التَّأْكِيدِ كَالنَّفْسِ وَلَا النَّفْسُ كَالْعَقْلِ إِلَى سَائِرِ أَصْنَافِ الضَّرُورِيَّاتِ‏.‏

وَالْحَاجِيَّاتُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الطَّلَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّمَتُّعَاتِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا كَالطَّلَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَهُ مُعَارِضٌ كَالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الْمُبَاحَةِ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَلَا أَيْضًا طَلَبُ هَذِهِ كَطَلَبِ الرُّخَصِ الَّتِي يَلْزَمُ فِي تَرْكِهَا حَرَجٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا طَلَبُ هَذِهِ كَطَلَبِ مَا يَلْزَمُ فِي تَرْكِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ حَرْفًا بِحَرْفٍ‏.‏

فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، أَوْ لِلنَّدْبِ، أَوْ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ مُشْتَرَكٌ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ فِي تَقْرِيرِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِيهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رَجَعَ إِلَى مَا ذُكِرَ، لَكِنَّ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُهُ صَعْبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ الْوَاقِفِيَّةِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُرْشِدُ إِلَى اعْتِبَارِ جِهَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ دُونَ صَاحِبَتِهَا‏.‏

فَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ أَمْرٍ‏:‏ هَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ طَلَبَ الضَّرُورِيَّاتِ أَوِ الْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ مَثَلًا نَظَرَ هَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ فِيهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ أَمْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي نَظَرَ هَلْ يَصِحُّ إِقَامَةُ أَصْلِ الضَّرُورِيِّ فِي الْوُجُودِ بِدُونِهِ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَى الْعَمَلِ اسْمُ ذَلِكَ الضَّرُورِيِّ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ قَائِمٌ مُقَامَ الرُّكْنِ وَالْجُزْءُ الْمُقَامُ لِأَصْلِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِدُونِهِ فَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَكِنَّهُ مُكَمِّلٌ، وَمُتَمِّمٌ، إِمَّا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ فَيَنْظُرُ فِي مَرَاتِبِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، أَوْ نَحْوِهِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ فِي الشَّرْعِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ لَيْسَ أَمْرٌ بِالتَّوَابِعِ‏]‏

الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ لَيْسَ أَمْرٌ بِالتَّوَابِعِ، بَلِ التَّوَابِعُ إِذَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا مُفْتَقِرَةً إِلَى اسْتِئْنَافِ أَمْرٍ آخَرَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدَاتِ فَالتَّوَابِعُ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْدِيَةِ الْمَتْبُوعَاتِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَالْأَمْرُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا فَيَكْفِي فِيهَا إِيقَاعُ مُقْتَضَى الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ إِيقَاعَهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا عَلَى صِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ وَجْهٍ، أَوْ صِفَةٍ عَلَى الْخُصُوصِ وَاللَّفْظُ لَا يُشْعَرُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَجْدِيدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

فَصْلٌ

وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُفْتَقِرٌ فِي أَدَاءِ مُقْتَضَى الْمُطْلَقَاتِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ إِلَى دَلِيلٍ فَإِنَّا إِذَا فَرَضْنَاهُ مَأْمُورًا بِإِيقَاعِ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وَجْهٍ مَخْصُوصٍ فَالْمَشْرُوعُ فِيهِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِوَجْهٍ وَلَا بِصِفَةٍ، بَلْ أَنْ يَقَعَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَعُ الْأَعْمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ فَالْمَأْمُورُ بِالْعِتْقِ مَثَلًا أُمِرَ بِالْإِعْتَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ مَثَلًا بِكَوْنِهِ ذَكَرًا دُونَ أُنْثَى وَلَا أَسْوَدَ دُونَ أَبْيَضَ وَلَا كَاتِبًا دُونَ صَانِعٍ وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَإِذَا الْتَزَمَ هُوَ فِي الْإِعْتَاقِ نَوْعًا مِنْ هَذَهِ الْأَنْوَاعِ دُونَ غَيْرِهِ احْتَاجَ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا كَانَ الْتِزَامُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا الْتَزَمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا أَنْ يَقْرَأَ بِالسُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا دَائِمًا، أَوْ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ دُونَ مَاءِ السَّاقِيَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي هِيَ تَوَابِعٌ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي الْمَتْبُوعَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ فِي التَّشْرِيعِ، وَهُوَ عُرْضَةٌ لِأَنْ يَكُرَّ عَلَى الْمَتْبُوعِ بِالْإِبْطَالِ‏.‏

وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَأْمُورِ الْمَتْبُوعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ يَقْتَضِي بَعْضَ الصِّفَاتِ، أَوِ الْكَيْفِيَّاتِ التَّوَابِعِ، فَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عَمَلٌ مُطْلَقٌ لَا يَخْتَصُّ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ فَالْمُخَصَّصُ لَهُ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، أَوْ وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ لَمْ يُوقِعْهُ عَلَى مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ فَافْتَقَرَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ، أَوْ صَارَ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ‏:‏ لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ الْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أُحْدِثَ، قَالَ‏:‏ وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوُّلُهَا وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ، وَقَالَ أَيْضًا أَتَرَى النَّاسَ الْيَوْمَ أَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى‏؟‏

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ‏:‏ يُرِيدُ أَنَّ الْتِزَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِثْرِ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا مَخْصُوصٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ سُنَّةٌ مِثْلَ مَا يُفْعَلُ بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ أَثَرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَلَا وَجْهَ لِكَرَاهِيَتِهَا وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا فَيَقْرَءُونَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ‏.‏

وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ لِلدُّعَاءِ فَكَرِهَهُ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ فَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي مَجْلِسِهِ فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَيُكَبِّرُونَ‏.‏ قَالَ‏:‏ يَنْصَرِفُ وَلَوْ أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ‏:‏ كَرِهَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ حَسَنًا، وَأَفْضَلُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ لِذَلِكَ بِدْعَةٌ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «أَفْضَلُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَكَرِهَ مَالِكٌ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْصِدَ الْقَارِئُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فَقَطْ لِيَسْجُدَ فِيهَا، وَكَرِهَ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنْ يَجْلِسَ الرِّجْلُ لِمَنْ سَمِعَهُ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَلُّمًا، وَأَنْكَرُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيُجْتَمَعُ عَلَيْهِ وَرَأَى أَنْ يُقَامَ وَفِيهَا‏:‏ وَمَنْ قَعَدَ إِلَيْهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ قِرَاءَةَ سَجْدَةٍ قَامَ عَنْهُ وَلَمْ يَجْلِسْ مَعَهُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم‏:‏ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ‏:‏ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ وَسُمِّىَ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَكَانَ مَسَاءً يَعْنِي يُسَاءُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ‏:‏ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُرَوِّحَ الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يُقْرِنَهُمَا حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ الْمَرْضِيِّينَ الْكِرَامِ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ‏.‏

وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوَ هَذَا فِي الْقِيَامِ لِلدُّعَاءِ، وَفِي الدُّعَاءِ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالتَّثْوِيبِ لِلصَّلَاةِ وَالزِّيَادَةِ فِي الذَّبْحِ عَلَى التَّسْمِيَةِ الْمَعْلُومَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الطَّوَافِ دَائِمًا وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ، يَكُونُ الْأَمْرُ وَارِدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيُقَيَّدُ بِتَقْيِيدَاتٍ تُلْتَزَمُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صِلَاتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ‏:‏ بَلْ نَلْتَفِتُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَنَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ‏.‏ كَأَنَّهُ كَرِهَ الْتِزَامَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَرَآهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَرِدِ الْتِزَامُهَا‏.‏

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَابًا أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُ لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضِحُ مَا لَمْ أَرَ‏.‏

هَذَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرِ الدَّوَامُ فِيهِ فَكَيْفَ مَعَ الِالْتِزَامِ‏؟‏

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْخُصُوصَاتِ فِي الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا كَانَ قَوْلًا بِالرَّأْيِ وَاسْتِنَانًا بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ انْبَنَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي‏]‏

الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي‏:‏ كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ أَصْلِهِ مِنَ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُتَبَيَّنُ مِنْ أَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ قَصْدِ الشَّارِعِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَيُتَنَاوَلُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ كَذَلِكَ وَلَا يُنْسَى حَقُّ اللَّهِ فِيهِ لَا فِي سَوَابِقِهِ وَلَا فِي لَوَاحِقِهِ وَلَا فِي قَرَائِنِهِ‏.‏

فَإِذَا أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ كَانَ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ إِنَّمَا وَضَعَهَا الشَّارِعُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحَيْثُ لَا تَقْدَحُ فِي دُنْيَا وَلَا فِي دِينٍ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِيهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جُعِلَتْ نِعَمًا، وَعُدَّتْ مِنَنًا، وَسُمِّيَتْ خَيْرًا وَفَضْلًا‏.‏

فَإِذَا خَرَجَ الْمُكَلَّفُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ إِلَى أَنْ تَكُونَ ضَرَرًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الدِّينِ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَذْمُومَةً؛ لِأَنَّهَا صَدَّتْ عَنْ مُرَاعَاةِ وُجُوهِ الْحُقُوقِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ وَالْمُقَارِنَةِ، أَوْ عَنْ بَعْضِهَا فَدَخَلَتِ الْمَفَاسِدُ بَدَلًا عَنِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ ذَلِكَ تَحَمُّلُ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَكْتَفِي مِنْهَا بِوَجْهٍ مَا، أَوْ بِنَوْعٍ مَا، أَوْ بِقَدْرٍ مَا، وَكَانَتْ مَصَالِحُهُ تُجْرَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ زَادَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَوْقَ مَا يُطِيقُهُ تَدْبِيرُهُ، وَقُوَّتُهُ الْبَدَنِيَّةُ وَالْقَلْبِيَّةُ كَانَ مُسْرِفًا وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ عَنْ حَمْلِ الْجَمِيعِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَالُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ كَالرَّجُلِ يَكْفِيهِ لِغِذَائِهِ مَثَلًا رَغِيفٌ، وَكَسْبُهُ الْمُسْتَقِيمُ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ؛ لِأَنَّ تَهْيِئَتَهُ لَا تَقْوَى عَلَى غَيْرِهِ فَزَادَ عَلَى الرَّغِيفِ مِثْلَهُ فَذَلِكَ إِسْرَافٌ مِنْهُ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ مَا يَكْفِيهِ مَعَ التَّقْوَى فَصَارَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي جِهَةِ تَنَاوُلِهِ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْغِذَاءِ فَوْقَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ الطِّبَاعُ فَصَارَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا ضَاقَ نَفْسُهُ وَاشْتَدَّ كَرْبُهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي جِهَةِ عَاقِبَتِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ، وَهَذَا قَدْ عَمِلَ عَلَى وَفْقِ الدَّاءِ فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ بِهِ‏.‏

وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ أَحْوَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي حِينِ الْإِسْرَافِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَالِبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا نَفْسَ الشَّيْءِ الْمُتَنَاوَلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غِذَاءٌ تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ‏.‏

فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحَالَةَ وَجَدْتَ الْمَذْمُومَ تَصَرُّفَ الْمُكَلَّفِ فِي النِّعَمِ لَا أَنْفُسِ النِّعَمِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ آلَةً لِلْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ ذُمَّتْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَهُوَ الْقَصْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمَذْمُومِ، وَإِلَّا فَالرَّبُّ تَعَالَى قَدْ تَعَرَّفَ إِلَى عَبْدِهِ بِنِعَمِهِ وَامْتَنَّ بِهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مَحْمُودَةٌ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا ذُمَّتْ حِينَ صَدَّتْ مَنْ صَدَّتْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ جِهَةَ الِامْتِنَانِ لَا تَزُولُ أَصْلًا‏.‏ وَقَدْ يَزُولُ الْإِسْرَافُ رَأْسًا، وَمَا هُوَ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى حَالٍ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏.‏ بِخِلَافِ مَا قَدْ يَزُولُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَخَذَ الْمُبَاحَ كَمَا حُدَّ لَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الذَّمِّ شَيْءٌ، وَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ دَاعِي هَوَاهُ وَلَمْ يُرَاعِ مَا حُدَّ لَهُ صَارَ مَذْمُومًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي اتَّبَعَ فِيهِ هَوَاهُ، وَغَيْرَ مَذْمُومٍ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ وَجْهَ الذَّمِّ قَدْ تَضَمَّنَ النِّعْمَةَ وَانْدَرَجَتْ تَحْتَهُ، لَكِنْ غَطَّى عَلَيْهَا هَوَاهُ، وَمِثَالُهُ أَنَّهُ إِذَا تَنَاوَلَ مُبَاحًا عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ فِي ضِمْنِهِ جَرَيَانُ مَصَالِحِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَشُوبَةً فَبِمَتْبُوعِ هَوَاهُ وَالْأَصْلُ هُوَ النِّعْمَةُ، لَكِنَّ هَوَاهُ أَكْسَبَهَا بَعْضَ أَوْصَافِ الْفَسَادِ وَلَمْ يَهْدِمْ أَصْلَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِلَّا فَلَوِ انْهَدَمَ أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ لَانْعَدَمَ أَصْلُ الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ أَصْلُ الْمُبَاحِ، وَإِنْ كَانَ مَغْمُورًا تَحْتَ أَوْصَافِ الِاكْتِسَابِ وَالِاسْتِعْمَالِ الْمَذْمُومِ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُبَاحِ مَذْمُومًا، وَمَطْلُوبَ التَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 72‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 59‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏غَافِرٍ‏:‏ 61‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 14‏]‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 73‏]‏ فَهَذِهِ الْآيَاتِ وَأَشْبَاهُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بُثَّ فِي الْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى أَصْلِ مَا بُثَّ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا وُضِعَ لَهُ فِيهَا اخْتِيَارٌ بِهِ يُنَاطُ التَّكْلِيفُ دَاخَلَتْهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الشَّوَائِبُ لَا مِنْ جِهَةِ مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا فَإِنَّهَا مِنَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ خَالِصَةٌ‏.‏

فَإِذَا جَرَتْ فِي التَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْمَشْرُوعِ فَذَلِكَ هُوَ الشُّكْرُ، وَهُوَ جَرْيُهَا عَلَى مَا وُضِعَتْ أَوَّلًا، وَإِنْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ الْكُفْرَانُ، وَمِنْ ثَمَّ انْجَرَّتِ الْمَفَاسِدُ، وَأَحَاطَتْ بِالْمُكَلَّفِ وَكُلٌّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» فَقِيلَ‏:‏ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ «لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَأَيْضًا فَبَابُ سَدِّ الذَّرَائِعِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى طَلَبِ تَرْكِ مَا ثَبَتَ طَلَبُ فِعْلِهِ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفَاصِيلِهِ فَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مِمَّا يُبْطِلُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى مِثْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وَشِبْهُ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدُ فِيهِ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَطْلُوبِ طَلَبَ النَّدْبِ قَدْ يَصِيرُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مَطْلُوبَ التَّرْكِ حَسْبَمَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ التَّعَمُّقِ وَالتَّشْدِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ وَالتَّبَتُّلِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ‏.‏

وَمِثْلُهُ الْمَطْلُوبُ طَلَبَ الْوُجُوبِ عَزِيمَةً قَدْ يَصِيرُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مَطْلُوبَ التَّرْكِ إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ فِيهِ مُشَوِّشًا، وَعَائِدًا عَلَى الْوَاجِبِ بِالنُّقْصَانِ كَقَوْلِه‏:‏ «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ رَاجِعٌ إِلَى مَا بُثَّ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى مَا وُضِعَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَ قَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏تَبَارَكَ‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وَقَدْ مَرَّ أَنَّ التَّكَالِيفَ وُضِعَتْ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ لِيَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا سَبَقَ الْعِلْمُ بِهِ فِي الْغَائِبِ‏.‏

وَقَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، لَكِنْ بِحَسَبِ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ وَالِابْتِلَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَهُ جِهَتَانِ لَا بِمَا هُوَ ذُو جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِذَلِكَ تَرَى النِّعَمَ الْمَبْثُوثَةَ فِي الْأَرْضِ لِلْعِبَادِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، وَتَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى سَوَاءٍ‏.‏

فَإِذَا عُدَّتْ نِعَمًا وَمَصَالِحَ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِ، فَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِتَنًا وَنِقَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَصَرُّفَاتِهِمْ أَيْضًا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَبْثُوثَةَ لِلِانْتِفَاعِ مُمْكِنَةٌ فِي جِهَتَيِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَمُهَيَّأَةٌ لِلتَّصَرُّفَيْنِ مَعًا‏.‏

فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْمَبْثُوثَةُ فِي الْأَرْضِ لِلتَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَيْفَ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يُعَدَّ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ هُوَ بَثُّهَا نِعَمًا فَقَطْ، وَكَوْنُهَا نِقَمًا وَفِتَنًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ الَّتِي نَصَّتْ عَلَى أَنَّهَا نِعَمٌ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا مَا هُوَ ظَاهِرُهَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ، أَوْ يُرَادُ بِهَا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ وَلَا يُوجَدُ فِي السَّمْعِ أَنْ يُخْبِرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَمْرٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّا إِنْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَبْثُوثَاتِ لَيْسَتْ بِنِعَمٍ خَالِصَةٍ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِقَمٍ خَالِصَةٍ فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهَا بِأَنَّهَا نِعَمٌ، وَأَنَّهُ امْتَنَّ بِهَا، وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، وَمَظِنَّةً لِحُصُولِ الشُّكْرِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ، ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا فِي تَفَاصِيلِ النِّعَمِ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 32‏]‏ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 10‏]‏ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِيهَا، وَفِي غَيْرِهَا، أَفَيَصِحُّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّهَا نِعَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ، وَنِقَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ‏؟‏ هَذَا كُلُّهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ‏.‏

وَالشَّوَاهِدُ لِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ هُدًى وَرَحْمَةً، وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ النُّورُ الْأَعْظَمُ، وَطَرِيقُهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيه‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وَأَنَّهُ ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 2‏]‏ لَا لِغَيْرِهِمْ‏.‏

وَأَنَّهُ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 3‏]‏ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيَكُونَ هُدًى لِقَوْمٍ، وَضَلَالًا لِآخَرِينَ، أَوْ هُوَ مُحْتَمِلٌ؛ لِأَنْ يَكُونَ هُدًى أَوْ ضَلَالًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَصِحُّ بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورِينَ فِي أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَأَنَّهَا سُلَّمٌ إِلَى السَّعَادَةِ، وَجِدٌّ لَا هَزْلٌ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 16‏]‏‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ هَذَا حَقٌّ إِذَا حَمَلْنَا التَّعَرُّفَ بِالنِّعَمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ كَمَا يَصِحُّ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى، وَشِفَاءً، وَنُورًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخِلُّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فِي بَثِّ النِّعَمِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ كَوْنَ النِّعَمِ تَئُولُ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النِّقَمِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ نِقَمًا فِي أَنْفُسِهَا، بَلِ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَقْصُودِ فِيهَا هُوَ الَّذِي صَيَّرَهَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ مِهَادًا وَالْجِبَالِ أَوْتَادًا وَجَمِيعَ مَا أَشْبَهَهُ نِعَمٌ ظَاهِرَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ، فَلَمَّا صَارَتْ تُقَابَلُ بِالْكُفْرَانِ بِأَخْذِهَا عَلَى غَيْرِ مَا حُدَّ صَارَتْ عَلَيْهِمْ وَبَالَا، وَفِعْلُهُمْ فِيهَا هُوَ الْوَبَالُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا هِيَ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَعَانُوا بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَرَى شَأْنُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا مُثِّلَتْ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ تَرَكُوا التَّأَمُّلَ وَالِاعْتِبَارَ فِيمَا قِيلَ لَهُمْ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَأَخَذُوا فِي ظَاهِرِ التَّمْثِيلِ بِالْعَنْكَبُوتِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا‏}‏ ‏[‏الْمُدَّثِّر‏:‏ 31‏]‏ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحَقِيقَةِ السَّابِقَةِ فِيمَنْ شَأْنُهُ هَذَا بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الْمُدَّثِّر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الْبَيَانَ الْمُنْتَظَرَ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 26‏]‏ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِقَصْدِ الْإِضْلَالِ لِقَوْمٍ وَالْهِدَايَةِ لِقَوْمٍ، أَيْ‏:‏ هُوَ هُدًى كَمَا قَالَ أَوَّلًا ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 2‏]‏، لَكِنَّ الْفَاسِقِينَ يَضِلُّونَ بِنَظَرِهِمْ إِلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، كَذَلِكَ هُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَوْبِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ مِنْ أَجْلِهِ، وَهَذَا الْمَكَانُ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَتِ النِّعَمُ نِعَمًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْذِهِمْ لَهَا عَلَى غَيْرِ الصَّوْبِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى الْقَصْدِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ وَهُوَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّ الْمَطْلُوبَ الْفِعْلِ صَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا قَطْعُ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ يُنْتَظَرُ حُصُولُهُ مِنْهُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَصَارَ الْغِنَاءُ الْمُبَاحُ مَثَلًا لَيْسَ بِخَادِمٍ لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ وَلَا تَكْمِيلِيٍّ، بَلْ قَطْعُ الزَّمَانِ بِهِ صَدٌّ عَمًّا هُوَ خَادِمٌ لِذَلِكَ فَصَارَ خَادِمًا لِضِدِّهِ‏.‏

وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّارِعُ بَاطِلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا‏}‏ ‏[‏الْجُمُعَة‏:‏ 11‏]‏ يَعْنِي الطَّبْلَ، أَوِ الْمِزْمَارَ، أَوِ الْغِنَاءَ‏.‏

أَوِ اللَّعِبَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 6‏]‏ وَهُوَ الْغِنَاءُ، وَقَالَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلدُّنْيَا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 36‏]‏، وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثَلَاثَةٌ» فَعَدَّهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَخْدِمُ أَصْلًا ضَرُورِيًّا أَوْ لَاحِقًا بِهِ اسْتَثْنَاهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا بَاطِلًا‏.‏

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ‏:‏ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لَمْ يَقَعِ الِامْتِنَانُ بِهِ وَلَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ تَقْرِيرِ النِّعَمِ كَمَا جَاءَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَقَعِ امْتِنَانٌ بِاللَّهْوِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَهْوٌ وَلَا بِالطَّرَبِ وَلَا بِسَبَبِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يُسَبِّبُهُ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الْعَائِدَةِ لِخِدْمَةِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ مَا جَرَى فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ خَارِجٌ عَنْهَا بِالْجُمْلَةِ‏.‏

وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ وُجُوهَ التَّمَتُّعَاتِ هُيِّئَتْ لِلْعِبَادِ أَسْبَابُهَا خَلْقًا وَاخْتِرَاعًا فَحَصَلَتِ الْمِنَّةُ بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَلَا تَجِدُ لِلَّهْوِ، أَوِ اللَّعِبِ تَهْيِئَةً تَخْتَصُّ بِهِ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَبْثُوثَةٌ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ جِهَتِهَا تَعَرُّفٌ بِمِنَّةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 10‏]‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 22‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 8‏]‏ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ وَلَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ تَعَرُّفَ اللَّهِ إِلَيْنَا بِشَيْءٍ خُلِقَ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ حُصُولَ اللَّذَّةِ وَرَاحَةِ النَّفْسِ وَالنَّشَاطِ لِلْإِنْسَانِ مَقْصُودٌ وَلِذَلِكَ كَانَ مَبْثُوثًا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَلَذَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْوِقَاعِ، وَالرُّكُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَطَلَبُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ مَوْضُوعَاتِهَا جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ مَا وَرَاءَهَا مِنْ خِدْمَةِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا، فَلْيَكُنْ جَائِزًا أَيْضًا فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالتَّفَرُّجِ فِي الْبَسَاتِينِ وَسَمَاعِ الْغِنَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فِعْلُهُ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ بَثُّهَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ وَالتَّجَمُّلِ بِالْأَمْوَالِ وَالتَّزَيُّنِ بِهَا وَاتِّخَاذُ السَّكَرِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنْ كَانَتْ خَادِمَةً لِضِدِّ الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ، فَهِيَ خَادِمَةٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مِمَّا فِيهِ تَنْشِيطٌ وَعَوْنٌ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوِ الْخَيْرِ كَمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِالْكُلِّ كَذَلِكَ، فَالْقِسْمَانِ مُتَّحِدَانِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِدْعَاءَ النَّشَاطِ وَاللَّذَّاتِ إِنْ كَانَ مَبْثُوثًا فِي الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ، فَهُوَ فِيهِ خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ‏.‏

وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَهَى مَسْأَلَةُ النِّزَاعِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ تَكُونَ اللَّذَّةُ وَالنَّشَاطُ فِيمَا هُوَ خَادِمٌ لِضَرُورِيٍّ، أَوْ نَحْوِهِ‏.‏

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيث‏:‏ «كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثَلَاثَةٌ»‏.‏

فَاسْتَثْنَى مَا فِيهِ خِدْمَةٌ لِمَطْلُوبٍ مُؤَكَّدٍ، وَأَبْطَلَ الْبَوَاقِيَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مَلَّةً، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا- يَعْنُونَ بِمَا يُنَشِّطُ النُّفُوسَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فَذَلِكَ فِي مَعْنَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالْجِدِّ فِيهِ غَايَةَ مَا طَلَبْتُمْ، وَذَلِكَ مَا بُثَّ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالتَّحْذِيرَاتِ وَالتَّبْشِيرَاتِ الْحَامِلَةِ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالْأَخْذِ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا طَلَبُوهُ‏.‏

قَالَ الرَّاوِي‏:‏ ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً فَقَالُوا‏:‏ حَدِّثْنَا شَيْئًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ فِيهَا آيَاتٌ، وَمَوَاعِظُ، وَتَذْكِيرَاتٌ، وَغَرَائِبُ تَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِدِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرُوحُ مَنْ تَعَبِ أَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ مَعَ ذَلِكَ فَدُلُّوا عَلَى مَا تَضَمَّنَ قَصْدَهُمْ بِمَا هُوَ خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ لَا مَا هُوَ خَادِمٌ لِضِدِّ ذَلِكَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا‏:‏ «إِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِدَّةٌ وَلِكُلِّ شِدَّةٍ فَتْرَةٌ فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»‏.‏

وَأَمَّا آيَاتُ الزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالسَّكَرِ فَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِيهَا لِتَبَعِيَّتِهَا لِأُصُولِ تِلْكَ النِّعَمِ لَا أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي تِلْكَ النِّعَمِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَالَ وَالزِّينَةَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ خَادِمٌ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»‏.‏

«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ»‏.‏

وَأَمَّا السَّكَرُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيه‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 67‏]‏ فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ اتِّخَاذَ السَّكَرِ وَلَمْ يُحَسِّنْهُ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 67‏]‏ فَحَسَّنَهُ‏.‏

فَالِامْتِنَانُ بِالْأَصْلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّصَرُّفُ لَا بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ كَالِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ الْأُخْرَى الْوَاقِعِ فِيهَا التَّصَرُّفُ، فَإِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا بِمَشْرُوعٍ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلَمْ يُؤْتَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ قَطُّ عَلَى طَرِيقِ الِامْتِنَانِ بِهِ كَسَائِرِ النِّعَمِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 59‏]‏ فَتَفْهَمُ هَذَا‏.‏

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَإِنَّهَا إِنْ فُرِضَ كَوْنُهَا خَادِمَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ، فَهِيَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَتَأْدِيبِ الْفَرَسِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِلَّا فَخِدْمَتُهُمَا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي لَعِبَ فِيهِ يُمْكِنُهُ فِيهِ عَمَلُ مَا يُنَشِّطُهُ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ كَمُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَرِيحَ بِتَرْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَالِاسْتِرَاحَةُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّوْمِ، وَغَيْرِهِ رَيْثَمَا يَزُولُ عَنْهُ كَلَالُ الْعَمَلِ لَا دَائِمًا كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَادِمَةٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏.‏

أَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ مِنْ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُدَاوَمَةٍ، فَقَدْ أَتَى بِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ فَصَارَتْ خِدْمَتُهُ لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَبَايَنَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ؛ إِذْ جِيءَ فِيهِ بِالْخَادِمِ لَهُ ابْتِدَاءً، وَهَذَا إِنَّمَا جِيءَ فِيهِ بِمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ التَّرْكِ لَكِنَّهُ تَضَمَّنَ خِدْمَةَ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ إِذَا لَمْ يُدَاوَمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏فِي ذِكْرِ فَائِدَةٍ فِي بَحْثِ الْمَسْأَلَةِ‏]‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ تَدْقِيقٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ قَدْ تَضَمَّنَ ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ فِي وَضْعِهِ الْأَوَّلِ، فَالْوَاجِبُ الْعَمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِلْمُبَاحِ، أَوْ تَرْكِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ إِلَّا تَعْلِيقُ الْفِكْرِ بِأَمْرٍ صِنَاعِيٍّ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحَزْمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أُمُورٌ فِقْهِيَّةٌ، وَأُصُولٌ عَمَلِيَّةٌ‏.‏

مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الْعَوَارِضِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَاسِدِ، وَمَا لَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَإِنِ اعْتَرَضَتِ الْعَوَارِضُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْمَشْرُوعَةَ بِالْأَصْلِ إِذَا دَاخَلَتْهَا الْمُنَاكِرُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُسَاكَنَةِ إِذَا كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَاشْتَهَرَتِ الْمُنَاكِرُ بِحَيْثُ صَارَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي حَاجَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي أَحْوَالِهِ لَا يَسْلَمُ فِي الْغَالِبِ مِنْ لِقَاءِ الْمُنْكَرِ أَوْ مُلَابَسَتِهِ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنْ كُلِّ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى هَذَا وَلَكِنَّ الْحَقَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اقْتِضَاءِ حَاجَاتِهِ، كَانَتْ مَطْلُوبَةً بِالْجُزْءِ، أَوْ بِالْكُلِّ، وَهَى إِمَّا مَطْلُوبٌ بِالْأَصْلِ، وَإِمَّا خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ أَدَّى إِلَى التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ، أَوْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ مَعَ الْكَفِّ عَمَّا يُسْتَطَاعُ الْكَفُّ عَنْهُ، وَمَا سِوَاهُ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ‏.‏

وَقَدْ بَسَطَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ مِنْ هَذَا‏.‏ فَإِذَا أَخَذَ قَضِيَّةً عَامَّةً اسْتَمَرَّ وَاطَّرَدَ‏.‏

وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَسْأَلَةِ دُخُولِ الْحَمَّامِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ جَوَازَهُ‏:‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَالْحَمَّامُ دَارٌ يَغْلِبُ فِيهَا الْمُنْكَرُ فَدُخُولُهَا إِلَى أَنْ يَكُونَ حَرَامًا أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا‏؟‏ قُلْنَا‏:‏ الْحَمَّامُ مَوْضِعُ تَدَاوٍ وَتَطَهُّرٍ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ قَدْ غَلَبَ فِيهِ بِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَتَظَاهُرِ الْمُنْكَرَاتِ‏.‏ فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمَرْءُ دَخَلَهُ، وَدَفَعَ الْمُنْكَرَ عَنْ بَصَرِهِ وَسَمِعَهُ مَا أَمْكَنُهُ، وَالْمُنْكَرُ الْيَوْمَ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُلْدَانِ، فَالْحَمَّامُ كَالْبَلَدِ عُمُومًا، وَكَالنَّهْرِ خُصُوصًا‏.‏ هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَهَكَذَا النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْأَصْلِ كُلِّهَا، وَهَذَا إِذَا أَدَّى الِاحْتِرَازُ مِنَ الْعَارِضِ لِلْحَرَجِ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي الْأَمْرِ الْمَفْرُوضِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ سِعَةً كَسَدِّ الذَّرَائِعِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ، وَيَتَجَاذَبُهَا طَرَفَانِ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِضَ سَدَّ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْحِيَلِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَصْلَ لَمْ يَسُدَّ مَا لَمْ يَبْدُ الْمَمْنُوعُ صُرَاحًا‏.‏

وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ النَّظَرُ فِي تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ، فَإِنَّ لِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ رُسُوخًا حَقِيقِيًّا وَاعْتِبَارُ غَيْرِهِ تَكْمِيلِيٌّ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ‏.‏

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُبَاحُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الْغِنَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ مُبَاحٌ إِذَا حَضَرَهُ مُنْكِرٌ، أَوْ كَانَ فِي طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ وَلَا هُوَ خَادِمٌ لِمَطْلُوبِ الْفِعْلِ، فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُكَلَّفُ حَظَّهُ مِنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِهِ جُمْلَةً، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ بَيَانٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي فَصْلِ الرُّخَصِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا مَعَ عَدَمِ التَّحْذِيرِ مِنِ اجْتِنَابِهَا، أَوِ اكْتِسَابِهَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، أَوْ كَانَ خَادِمًا لِلْمَطْلُوبِ، فَقَدْ تَرَكُوا الْجَمَاعَاتِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَأَشْبَاهَهَا مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَحَضَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّزَوُّجِ، وَكَسْبِ الْعِيَالِ لِمَا دَاخَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَاتَّبَعَهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ تَرَكَ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ وَتَعْلِيمَ الْعِلْمِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَهَكَذَا غَيْرُهُ، وَكَانُوا عُلَمَاءَ وَفُقَهَاءَ، وَأَوْلِيَاءَ، وَمُثَابِرِينَ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ وَطَلَبِ الْمَثُوبَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَهُ دَلِيلٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»، وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعُزْلَةِ، وَهَى مُتَضَمِّنَةٌ لِتَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْكُلِّ، أَوْ بِالْجُزْءِ نَدْبًا، أَوْ وُجُوبًا خَادِمًا لِمَطْلُوبٍ، أَوْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ بِالْمُبَاحِ‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُرَدُّ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّا إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ فِي طَلَبِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْجُزْءِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَرَّضْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّظَرِ فِيهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ مَا وَقَعَ التَّحْذِيرُ فِيهِ، وَمَا فَعَلَ السَّلَفُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى مُعَارِضٍ أَقْوَى فِي اجْتِهَادِهِمْ مِمَّا تَرَكُوهُ كَالْفِرَارِ مِنَ الْفِتَنِ فَإِنَّهَا فِي الْغَالِبِ قَادِحَةٌ فِي أُصُولِ الضَّرُورِيَّاتِ كَفِتَنِ سَفْكِ الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَاطِلِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَوْ لِلْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّلَبُّسِ مَعَ الْمَفْسَدَةِ الْمُنْجَرَّةِ بِسَبَبِهِ، أَوْ تَرْكِ وَرِعِ الْمُتَوَرِّعِ يَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً يَحْتَمِلُهَا وَالْمَشَقَّاتُ تَخْتَلِفُ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فَكُلُّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا عَلَى حَالٍ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ طَاعَةً وَمَا لَا يَنْقَلِبُ‏]‏

وَمِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ طَاعَةً، وَمَا لَا يَنْقَلِبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا خَادِمًا لِمَأْمُورٍ بِهِ تُصُوِّرَ فِيهِ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْوِقَاعَ، وَغَيْرَهَا تَسَبَّبَ فِي إِقَامَةِ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُتَنَاوَلِ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالطِّيبِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا فِي أَخْذِهِ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ‏.‏

فَإِذَا أَخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ، وَإِذَا أَخَذَ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ، وَطَلَبُهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ‏.‏

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ خَادِمُ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ انْقِلَابُهُ طَاعَةً؛ إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا قَصْدَ الْأَخْذِ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ‏.‏

وَأَمَّا مَا كَانَ خَادِمًا لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ فَلَمَّا كَانَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ لَمْ يَصِحَّ انْصِرَافُهُ إِلَى جِهَةِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ‏.‏

وَقَدْ فُرِضَ عَدَمُ الْإِذْنِ فِيهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ فَلَيْسَ بِطَاعَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ أَنْ يَنْقَلِبَ طَاعَةً فَاللَّعِبُ مَثَلًا لَيْسَ فِي خِدْمَةِ الْمَطْلُوبَاتِ كَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ، وَشُرْبِهَا، فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي جِنْسِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمَا دَارَ بِهَا بِخِلَافِ اللَّعِبِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي جِنْسِ مَا هُوَ ضِدٌّ لَهَا، وَحَاصِلُ هَذَا الْمُبَاحِ أَنَّهُ مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ خَاصَّةً لَا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ كَالْمُبَاحِ حَقِيقَةً‏.‏

وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ السَّمَاعِ الْمُبَاحِ‏.‏

فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ يَنْقَلِبُ بِالْقَصْدِ طَاعَةً، وَإِذَا عُرِضَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إِذَا سَلَّمَنَا أَنَّ الْخَادِمَ لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ مَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي‏:‏ فَاللَّعِبُ وَالْغِنَاءُ وَنَحْوُهُمْ إِذَا قُصِدَ بِاسْتِعْمَالِهَا التَّنْشِيطُ عَلَى وَظَائِفِ الْخِدْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ، فَقَدْ صَارَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ طَاعَةً فَكَيْفَ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ طَاعَةً‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ وَجْهِ النَّشَاطِ عَلَى الطَّاعَةِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ لَعِبٌ، أَوْ غِنَاءٌ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَ مِنْ ذَلِكَ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ اسْتَوَى مَعَ النَّوْمِ مَثَلًا، وَالِاسْتِلْقَاءُ عَلَى الْقَفَا وَاللَّعِبُ مَعَ الزَّوْجَةِ فِي مُطْلَقِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَبَقِيَ اخْتِيَارُ كَوْنِهِ لَعِبًا عَلَى الْجُمْلَةِ، أَوْ غِنَاءً تَحْتَ حُكْمِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَرِيحِ‏.‏

فَإِذَا أَخَذَهُ مِنِ اخْتِيَارِهِ فَهُوَ سَعْيٌ فِي حَظِّهِ، فَلَا طَلَبَ، وَإِنْ أَخْذَهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ، فَلَا طَلَبَ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَمَا تَبَيَّنَ‏.‏

وَلَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا تَضَمَّنَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي‏:‏ لَمْ يَضُرَّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ وَلَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ خِدْمَةَ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ فَكَأَنْ يَكُونَ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ‏.‏ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ هَذَا شَبِيهًا بِفِعْلِ الْمَكْرُوهِ طَلَبًا لِتَنْشِيطِ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ فَكَمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يَنْقَلِبُ طَاعَةً كَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ شَبِيهًا بِهِ‏.‏

فَصْلٌ

وَمِنْهَا بَيَانُ وَجْهِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِيهِ كَقَوْلِهِ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ‏:‏ «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» ثُمَّ دَعَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ الْقَائِلُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ يَضُرُّ بِهِ فَلِمَ دَعَا لَهُ‏؟‏ وَجَوَابُ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ دُعَاءَهُ لَهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي الِاكْتِسَابِ، أَوْ أَصْلِ الطَّلَبِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ‏.‏

وَمِثْلُهُ التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ مَعَ أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الِاكْتِسَابِ لَهُ كَقَوْلِه‏:‏ «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ» قِيلَ‏:‏ وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «زَهْرَةُ الدُّنْيَا» فَقِيلَ‏:‏ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ «لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ‏:‏ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ‏:‏ «إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ‏:‏ «الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَشَارَ بِهِ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَصْلِ الِاكْتِسَابِ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ وَلَا عَنِ الزَّائِدِ عَلَى مَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ فِي الْمَالِ شَرْعًا مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا الِاكْتِسَابُ خَادِمٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ فَلِذَلِكَ كَانَ الِاكْتِسَابُ مِنْ أَصِلِهِ حَلَالًا إِذَا رُوعِيَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ كَانَ صَاحِبُهُ مَلِيًّا، أَوْ غَيْرَ مَلِيٍّ فَلَمْ يُخْرِجْهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ عَنْ كَوْنِهِ مَطْلُوبًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ أَصْلِيٌّ وَالنَّهْيُ تَبَعِيٌّ فَلَمْ يَتَعَارَضَا وَلِأَجْلِ هَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَعْمَلُونَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دُنْيَاهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ‏.‏

وَالْفَوَائِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏انْقِسَامُ الِاقْتِضَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ‏]‏

قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي التَّأْكِيدِ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّلَبِ الْفِعْلِيِّ، أَوِ التَّرْكِيِّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي وَالْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ‏.‏

وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُتَصَوَّرُ انْقِسَامُ الِاقْتِضَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ‏.‏

وَثَمَّ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَا يَنْقَسِمُ فِيهِ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ تَابِعًا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِضَاءِ وَلَيْسَ لِلِاقْتِضَاءِ إِلَّا وَجْهَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ اقْتِضَاءُ التَّرْكِ‏.‏

فَلَا فَرْقَ فِي مُقْتَضَى الطَّلَبِ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ جَرَى عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنِ اطَّرَحَ مُطَالَبَ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا، بَلْ رُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْدُوبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى السَّالِكِ، وَعَلَى الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَدُّوا الْمُبَاحَاتِ مِنْ قَبِيلِ الرُّخَصِ كَمَا مَرَّ فِي أَحْكَامِ الرُّخَصِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا هَذَا الْمَأْخَذَ مِنْ طَرِيقَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَهُوَ رَأْيُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِلَّا مُجَرَّدَ الِاقْتِضَاءِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَقْسَامِ كُلِّهَا وَالْمُخَالَفَةُ فِيهَا كُلُّهَا مُخَالَفَةٌ لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَرْعًا دَعِ الْقَبِيحَ عَادَةً وَلَيْسَ النَّظَرُ هُنَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ ذَمٍّ، أَوْ عِقَابٍ، بَلِ النَّظَرُ إِلَى مُوَاجَهَةِ الْآمِرِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ بَالَغَ فِي الْحُكْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَعَدَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ كَبِيرَةً، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ الِانْقِسَامَ إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ الِانْقِسَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَالَفَاتِ فِي أَنْفُسِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَمَا رَآهُ يَصِحُّ فِي الِاعْتِبَارِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ النَّظَرُ إِلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِمُقْتَضَاهَا، فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي مِنْ حَيْثُ هِيَ تَقْتَضِي التَّقَرُّبَ مِنَ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِكَ فَطَالِبُ الْقُرْبِ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَبَيْنَ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقْتَضِيهِ حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْقُرْبِ، وَهُوَ إِمَّا الْبُعْدُ، وَإِمَّا الْوُقُوفُ عَنْ زِيَادَةِ الْقُرْبِ وَالتَّمَادِي فِي الْقُرْبِ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَحَصَلَ مِنْ تِلْكَ أَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالْهَرَبِ عَنِ الْبُعْدِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ النَّظَرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ، وَضِدُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ فَالْبَانِي عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ عِنْدَهُ طَلَبٌ مِنْ طَلَبٍ كَالْأَوَّلِ فِي الْقَصْدِ إِلَى التَّقَرُّبِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي مَرَاتِبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي رَاجِعًا إِلَى مُكَمِّلٍ خَادِمٍ، وَمُكَمِّلٍ مَخْدُومٍ، وَمَا هُوَ كَالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فَمَتَى حَصَلَتِ الْمَنْدُوبَاتُ كَمُلَتِ الْوَاجِبَاتُ، وَبِالضِّدِّ فَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِ الضَّرُورِيَّاتِ آتِيَةً عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا فَكَانَ الِافْتِقَارُ إِلَى الْمَنْدُوبَاتِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ فَزَاحَمَتِ الْمَنْدُوبَاتُ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الِافْتِقَارِ فَحُكِمَ عَلَيْهَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ رَائِدًا لَهَا، وَأُنْسًا بَهَا، فَإِنَّ الْأُنْسَ بِمُخَالَفَةِ مَا يُوجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ الْأُنْسَ بِمَا فَوْقَهَا حَتَّى قِيلَ‏:‏ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ‏.‏

وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُطَفِّفِينَ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ‏.‏

وَحَدِيثُ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» إِلَخْ‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ «كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»‏.‏

وَفِي قِسْمِ الِامْتِثَالِ قَوْلُهُ‏:‏ «وَمَا تَقَرَّبَ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ بِالشُّكْرَانِ أَوْ بِالْكُفْرَانِ مِنْ حَيْثُ كَانَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي شُكْرَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ مَمْدُودَةً مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْفَرْشِ بِحَسَبِ الِارْتِبَاطِ الْحُكْمِيِّ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الْجَاثِيَة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 32- 34‏]‏ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

فَتَصْرِيفُ النِّعْمَةِ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ شُكْرَانٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْكَ، أَوْ كَانَتْ سَبَبًا فِي وُصُولِهَا إِلَيْكَ وَالْأَسْبَابُ الْمُوَصِّلَةُ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَا تَخْتَصُّ بِسَبَبٍ دُونَ سَبَبٍ وَلَا خَادِمٍ دُونَ خَادِمٍ فَحَصَلَ شُكْرُ النِّعَمِ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَتَصْرِيفُهَا فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ كُفْرَانٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْكَ، أَوْ كَانَتْ سَبَبًا فِيهَا كَذَلِكَ أَيْضًا‏.‏

وَهَذَا النَّظَرُ ذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ وَلَا بَيْنَ نَهْيٍ وَنَهْيٍ، فَامْتِثَالُ كُلِّ أَمْرٍ شُكْرَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمُخَالَفَةُ كُلِّ أَمْرٍ كُفْرَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَثَمَّ أَوْجُهٌ أُخَرُ يَكْفِي مِنْهَا مَا ذُكِرَ، وَهَذَا النَّظَرُ رَاجِعٌ إِلَى مُجَرَّدِ اصْطِلَاحٍ لَا إِلَى مَعْنًى يُخْتَلَفُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يُنْكِرُ أَصْحَابُ هَذَا النَّظَرِ انْقِسَامَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ بِحَسَبِ التَّصَوُّرِ النَّظَرِيِّ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا فِي نَمَطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 56‏]‏ أَنْ يَقُومَ بِغَيْرِ التَّعَبُّدِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي مَرَاتِبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي يُشْبِهُ الْمَيْلَ إِلَى مُشَاحَّةِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فِي طَلَبِ حُقُوقِهِ، وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ، بَلْ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ وَالرَّبُّ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏يَقْتَضِي مَا سَبَقَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ مُخَالَفَةٍ تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ‏]‏

وَيَقْتَضِي هَذَا النَّظَرُ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ مُخَالَفَةٍ تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الشَّارِعِ قَبِيحَةٌ شَرْعًا ثَبَتَ أَنَّ الْمُخَالِفَ مَطْلُوبٌ بِالتَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، أَوِ النَّهْيِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ نَاقَضَتِ التَّقَرُّبَ، أَوْ مِنْ حَيْثُ نَاقَضَتْ وَضْعَ الْمَصَالِحِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ كُفْرَانًا لِلنِّعْمَةِ‏.‏

وَيَنْدَرِجُ هُنَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الرُّخَصِ، وَمَذْهَبُهُمُ الْأَخْذُ بِالْعَزَائِمِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الرُّخَصِ فِيمَا اسْتَطَاعَ الْمُكَلَّفُ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُبَاحِ مَرْجُوحٌ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِذَا كَانَ مَرْجُوحًا فَالرَّاجِحُ الْأَخْذُ بِمَا يُضَادُّهُ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرَكُ شَيْءٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ مُخَالَفَةٌ فَالنُّزُولُ إِلَى الْمُبَاحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَالَفَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَةً فِي الْحَقِيقَةِ‏.‏

وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» الْحَدِيثَ، وَيَشْمَلُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وَلِأَجْلِهِ أَيْضًا جَعَلَ الصُّوفِيَّةُ بَعْضَ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ إِذَا اقْتَصَرَ السَّالِكُ عَلَيْهَا دُونَ مَا فَوْقَهَا نَقْصًا وَحِرْمَانًا، فَإِنَّ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُرَتَّبَةُ الَّتِي دُونَهَا وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى بِالدُّونِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِالِاسْتِبَاقِ إِلَى الْخَيِّرَاتِ مُطْلَقًا، وَقُسِّمَ الْمُكَلَّفُونَ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ وَالسَّابِقِينَ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 88- 89‏]‏، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَجَارُوا فِي مَيْدَانِ الْفَضَائِلِ حَتَّى يَعُدُّوا مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ازْدِيَادٍ نَاقِصًا، وَمَنْ لَمْ يُعَمِّرْ أَنْفَاسَهُ بَطَّالًا‏.‏

وَهَذَا مَجَالٌ لَا مَقَالَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نَبَّهَ حَدِيثُ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ تَعُمُّ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ فَيَنْدَمُ الْمُسِيءُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَحْسَنَ وَالْمُحْسِنُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِ ازْدَادَ إِحْسَانًا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا إِثْبَاتٌ لِلنَّقْصِ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا نَقْصَ فِيهَا‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْبَاتِ نَقْصٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ رَاجِحٌ، وَأَرْجَحُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ‏.‏

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِهَا فِي الْأَكْمَلِيَّةِ وَالْأَرْجَحِيَّةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنْ لَا نَقْصَ فِي مَرَاتِبِ النُّبُوَّةِ إِلَّا أَنَّ الْمُسَارَعَةَ فِي الْخَيْرَاتِ تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِأَقْصَى الْمَرَاتِبِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَادَةً، فَلَا يَلِيقُ بِصَاحِبِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى مَرْتَبَةٍ دُونَ مَا فَوْقَهَا فَلِذَلِكَ قَدْ تَسْتَنْقِصُ النُّفُوسُ الْإِقَامَةَ بِبَعْضِ الْمَرَاتِبِ مَعَ إِمْكَانِ الرُّقِيِّ، وَتَتَحَسَّرُ إِذَا رَأَتْ شُفُوفَ مَا فَوْقِهَا عَلَيْهَا كَمَا يَتَحَسَّرُ أَصْحَابُ النَّقْصِ حَقِيقَةً إِذَا رَأَوْا مَرَاتِبَ الْكَمَالِ، كَالْكُفَّارِ وَأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَلَمَّا فَضَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دُورِ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ‏:‏ «فِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ» قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ خُيِّرَ دُورُ الْأَنْصَارِ فَجُعِلْنَا آخِرًا، فَقَالَ‏:‏ «أَوْ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ‏؟‏»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ «قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَى كَثِيرٍ»‏.‏

فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ رُتَبَ الْكَمَالِ تَجْتَمِعُ فِي مُطْلَقِ الْكَمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَرَاتِبُ أَيْضًا، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي وَإِمْكَانِيَّةُ أَخْذِهَا امْتِثَالًا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَمِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ‏]‏

تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، وَأَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ كَمَا أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ هُنَا بِحَوْلِ اللَّهِ فَنَقُولُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي يُمْكِنُ أَخْذُهَا امْتِثَالًا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا سَمِعَ مَثَلًا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 97‏]‏ فَلِامْتِثَالِهِ هَذَا الْأَمْرَ مَأْخَذَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِلَى زَادٍ يَبْلُغُهُ، وَإِلَى مَرْكُوبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، وَإِلَى الطَّرِيقِ إِنْ كَانَ مَخُوفًا، أَوْ مَأْمُونًا، وَإِلَى اسْتِعَانَتِهِ بِالرُّفْقَةِ وَالصُّحْبَةِ لِمَشَقَّةِ الْوَحْدَةِ وَغَرَرِهَا، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعُودُ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ بِالْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ بِالْمَفْسَدَةِ‏.‏

فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَسْبَابُ السَّفَرِ وَشُرُوطُهُ الْعَادِيَّاتُ انْتَهَضَ لِلِامْتِثَالِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَنْحَتِمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى غَافِلًا، وَمُعْرِضًا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ فَيَنْتَهِضُ إِلَى الِامْتِثَالِ كَيْفَ أَمْكَنَهُ لَا يَثْنِيهِ عَنْهُ إِلَّا الْعَجْزُ الْحَالِيُّ أَوِ الْمَوْتُ آخِذًا لِلِاسْتِطَاعَةِ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَقِهِ بَقِيَّةٌ، وَأَنَّ الطَّوَارِقَ الْعَارِضَةَ وَالْأَسْبَابَ الْمُخَوِّفَةَ لَا تُوَازِي عَظَمَةَ أَمْرِ اللَّهِ فَتُسْقِطَهُ، أَوْ لَيْسَتْ بِطَوَارِقَ وَلَا عَوَارِضَ فِي مَحْصُولِ الْعَقْدِ الْإِيمَانِيِّ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي‏.‏

فَأَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ فَجَارٍ عَلَى اعْتِبَارِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ الْمَشْرُوطَةِ رَاجِعٌ إِلَيْهَا‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَجَارٍ عَلَى إِسْقَاطِ اعْتِبَارِهَا‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَأْخَذِ أَشْيَاءُ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ عَلَى اللَّهِ ضَمَانُ الرِّزْقِ كَانَ ذَلِكَ مَعَ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ أَوَّلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 56- 57‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

فَهَذَا وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ حَقُّ اللَّهِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ فَالْمُقَدَّمُ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَضْمُونَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرِّزْقُ مِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَاقْتَضَى الْكَلَامُ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الرِّزْقِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الرِّزْقِ، ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْمُجْتَلَبَةِ وَالْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْجَمِيعِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 107‏]‏ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 3‏]‏ بَعْدَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 2- 3‏]‏‏.‏

فَمَنِ اشْتَغَلَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَاللَّهُ كَافِيهِ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ» الْحَدِيثَ فَهُوَ كُلُّهُ نَصٌّ فِي تَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَفِي الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللَّهِ‏.‏

وَأَحَادِيثُ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ كَقَوْلِه‏:‏ «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ابْنِ صَيَّادٍ‏:‏ «إِنْ يَكُنْهُ، فَلَا تُطِيقُهُ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتَنْكِحَ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا»‏.‏

وَقَالَ فِي الْعَزْل‏:‏ «وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ»‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ»‏.‏

إِلَى سَائِرِ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَسْبَابِ التَّسَبُّبُ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا تَرُدُّ شَيْئًا، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ، وَأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ هِيَ الْعَزِيمَةُ الْأُولَى‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ، فَقَدَّمُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ قَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»‏.‏

وَبَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ تَمَالَئُوا عَلَى إِهْلَاكِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ، وَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 48‏]‏‏.‏

فَأَمَرَهُ بِاطِّرَاحِ مَا يَتَوَقَّاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ، وَهُوَ يُبَلِّغُهُمُ الرِّسَالَةَ‏:‏ ‏{‏فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 55- 56‏]‏‏.‏

وَقَالَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 45‏]‏‏.‏

فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا‏:‏ ‏{‏لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ قَدْ نَزَلَ عُذْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 95‏]‏ وَلَكِنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ‏:‏ إِنِّي أَعْمَى لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفِرَّ فَادْفَعُوا إِلَيَّ اللِّوَاءَ، وَأَقْعِدُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَيَتْرُكَ مَا مَنَحَ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَيُقَدِّمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ جُنْدَعِ بْنِ ضَمْرَةَ أَنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَلَمَّا أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ، وَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ قَالَ لِبَنِيه‏:‏ إِنِّي أَجِدُ حِيلَةً، فَلَا أُعْذَرُ احْمِلُونِي عَلَى سَرِيرٍ فَحَمَلُوهُ فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ، وَهُوَ يُصَفِّقُ يَمِينَهُ عَلَى شَمَالِهِ، وَيَقُولُ‏:‏ هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِرَسُولِكَ‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ شَهِدَتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَخٌ لِي أُحُدًا فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ قُلْتُ لِأَخِي، أَوْ قَالَ لِي‏:‏ أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبَةً، وَمَشَى عُقْبَةً حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَفِي النَّقْلِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ‏.‏

وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ إِذَا وُقِفَ مَعَهَا حَسْبَمَا تَقَرَّرَ اقْتَضَتِ اطِّرَاحَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً أَعَنِي مَا كَانَ مِنْهَا عَائِدًا إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَهَا، وَأَمَرَ بِهَا وَاسْتَعْمَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ بَعْدَهُ، وَهَى عُمْدَةُ مَا حَافَظَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي الطَّلَبِ فَمِنْهَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ حَتْمًا كَالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ، وَسَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ الْمُرَاعَاةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ‏.‏

وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِحَتْمٍ كَالْمَنْدُوبَاتِ فَكَيْفَ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً‏؟‏ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَقِيمُ فِي النَّظَرِ‏.‏

وَأَيْضًا فَالْأَدِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِمَا تَقَدَّمَ أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 195‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 197‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَعِدُّ الْأَسْبَابَ لِمَعَاشِهِ، وَسَائِرِ أَعْمَالِهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ، وَيَعْمَلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَالسُّنَّةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ الْجَرَيَانُ عَلَى الْعَادَاتِ، وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَقْتَضِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْآخَرُ وَلَيْسَ مَا دَلَّلْتُمْ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِمَّا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ تَحَكُّمٌ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى اطِّرَاحِ الْأَسْبَابِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ خَاصَّةً، وَهَى الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى وَجْهٍ اجْتِهَادِيٍّ شَرْعِيٍّ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْأَسْبَابِ وَاسْتِعْمَالُهُ لَهَا تَعَارُضٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِعْلَ مَنِ اطَّرَحَهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَعَمَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اطِّرَاحِهَا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَنَدْبُهُ إِلَى ذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ‏.‏

وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَجْهُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ عِنْدَ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ، هَذَا جَوَابُ الْأَوَّلِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَتْ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَيْفَ كَانَتْ، وَإِنَّمَا فُسِّحَ لِلْمُكَلَّفِ فِي أَخْذِ حَقِّهِ وَطَلَبِهِ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ لَا مِنْ بَابِ عَزَائِمِ الْمَطَالِبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَزَائِمُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ نَدْبًا إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ التَّحْسِينَاتِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ التَّحْسِينِيَّاتِ خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّى الْإِخْلَالُ بِهَا إِلَى الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ بِالْجُزْءِ وَاجِبَاتٌ بِالْكُلِّ فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى النَّظَرِ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَاجِبَاتِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ فِي النَّظَرِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ، فَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ، فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُعَارَضَةٌ أَصْلًا، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّ تَقْدِيمَ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُعَارِضُ فِي تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ مُعَارِضٌ يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْيِيعُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَثَلًا لِمَرَضِهِ وَلَكِنَّهُ صَامَ فَشَغَلَهُ أَلَمُ الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَإِدَامَةِ الْحُضُورِ فِيهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَادَتْ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ‏.‏

فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ بِنَكِيرٍ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ الْأَحَقُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا فِقْهٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَسَنٌ جِدًّا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَأْخِيرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَلَّفِ لَا إِلَى غَيْرِهِ‏]‏

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الْمُكَلَّفِ لَا إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

أَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏تَوَارُدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ‏]‏

الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ التَّعَاوُنِ هَلْ يُعْتَبَرُ الْأَصْلُ، أَوْ جِهَةُ التَّعَاوُنِ‏؟‏

أَمَّا اعْتِبَارُهُمَا مَعًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَصِحُّ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ فَالْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ، أَوِ التَّعَاوُنِ‏.‏

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ مَنَعَ الْجَائِزَ لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْمَمْنُوعِ‏.‏

وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ؛ إِذْ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُنْضَبِطُ وَالْقَانُونُ الْمُطَّرِدُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّعَاوُنِ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْأَصْلِ مُؤَدٍّ إِلَى الْمَآلِ الْمَمْنُوعِ وَالْأَشْيَاءِ إِنَّمَا تَحِلُّ وَتُحَرَّمُ بِمَآلَاتِهَا وَلِأَنَّهُ فَتَحَ بَابَ الْحِيَلِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ التَّفْصِيلُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ جِهَةَ التَّعَاوُنِ غَالِبَةً، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ غَالِبَةً فَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَاجِبٌ؛ إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ الْغَالِبُ هُنَا لَأَدَّى إِلَى انْخِرَامِ الْأَصْلِ جُمْلَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً فَالِاجْتِهَادُ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي‏:‏ فَظَاهِرُهُ شَنِيعٌ؛ لِأَنَّهُ إِلْغَاءٌ لِجِهَةِ النَّهْيِ لِيُتَوَصَّلَ إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ تَعَاوُنًا، وَطَرِيقُ التَّعَاوُنِ مُتَأَخِّرٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَنْ طَرِيقِ إِقَامَةِ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَكْمِيلِيٌّ، وَمَا هُوَ إِلَّا بِمَثَابَةِ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ لِيَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ يَبْنِيَ قَنْطَرَةً وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَإِنَّ مَنْعَهُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ؛ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ مَنْعِ الِارْتِفَاقِ، وَأَصْلُهُ ضَرُورِيٌّ، أَوْ حَاجِيٌّ لِأَجْلِ أَهْلِ السُّوقِ، وَمَنْعِ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَنْعٌ مِنَ النَّصِيحَةِ إِلَّا أَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِأَهْلِ الْحَضَرِ، وَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ جِهَةَ التَّعَاوُنِ هُنَا أَقْوَى‏.‏

وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ؛ إِذْ قَدَّمُوهُ خَلِيفَةً بِتَرْكِ التِّجَارَةِ وَالْقِيَامِ بِالتَّحَرُّفِ عَلَى الْعِيالِ لِأَجْلِ مَا هُوَ أَعَمُّ فِي التَّعَاوُنِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِوَضُهُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ صَحِيحٌ كَمَا تَفَسَّرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏